فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحدائق جمع حديقة البستان عليه حائط من الإحداق والإحاطة. والبهجة الحسن والنضارة لأن الناظر يبتهج به. وإنما لم يقل ذوات بهجة على الجمع لأن المعنى جماعة حدائق كما يقال: النساء ذهبت. ومعنى {أءله مع الله} أغيره يقرن به ويجعل شريكًا له. قال في الكشاف: قوله: {بل هم} بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم. قلت: إنما تعين الغيبة ههنا لأن الخطاب في قوله: {ما كان لكم} إنما هو لجميع الناس أي ما صح وما ينبغي للإنسان أن يتأتى منه الإنبات. ولو قال بعد ذلك بل أنتم لزم أن يكون كل الناس مشركين وليس كذلك. وقوله: {يعدلون} من العدل أو من العدول اي يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.
ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها. والقرار المستقر اي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها. والحاجز البرزخ كما في الفرقان. ثم استدل بحاجة الإنسان إليه على العموم. والمضطر الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله سبحانه، وإنه افتعال من الضر. وعن ابن عباس: هو المجهود. وعن السدي: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: هو المذنب ودعاؤه استغفاره. والمضطر اسم جنس يصلح للكل وللبعض فلا يلزم من الآية إجابة جميع المضطرين، نعم يلزم الإجابة بشرائط الدعاء كما مر في البقرة وفي ادعوني وقوله: {ويكشف السوء} كالبيان لقوله: {يجيب المضطر} والخلافة في الأرض إما بتوارث السكنى وإما بالملك والتسلط وقد مر في آخر الأنعام. وقوله: {قليلًا ما تذكرون} معناه تذكرون تذكرًا قليلًا، ويجوز أن يراد بالقلة العدم. ثم استدل لحاجة الناس وخصوصًا الهداية في البر والبحر بالعلامات وبالنجوم، ثم استدل باحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وذلك أنهم كانوا معترفين بالإبداء ودلالة الإبداء على الإعادة دلالة ظاهرة فكأنهم كانوا مقرين بالإعادة أيضًا، فاحتج عليهم بذلك لذلك. والرزق من السماء الماء ومن الأرض النبات. واعلم أن الله سبحانه ذكر قوله: {أءله مع الله} في خمس آيات على التوالي وختم الأولى بقوله: {بل هم قوم يعدلون} ثم بقوله: {بل أكثرهم لا يعلمون} ثم بقوله: {قليلًا ما تذكرون} ثم بقوله: {تعالى الله عما يشركون} ثم {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} والسر فيه أن أول الذنوب العدول عن الحق، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال فاشركوا من غير حجة وبرهان. قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلهًا آخر. وحين بين اختصاصه بكمال القدرة أراد أن يبين اختصاصه بعلم الغيب. قال في الكشاف: هذا على لغة بني تميم يرفعون المستثنى المنقطع على البدل إذا كان المبدل منه مرفوعًا يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار كأن أحدًا لم يذكر كقوله:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس

والمعنى إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب كما أن معنى البيت إن كانت اليعافير أنيسًا ففيها أنيس بتًا للقول بخلوها عن الأنيس. قلت: لقائل أن يقول: إن استثناء نقيض المقدم غير منتج فلا يلزم من استحالة كون الله سبحانه في كل مكان ممن في السموات والأرض أنهم لا يعلمون الغيب، ولا من امتناع كون اليعافير أنيسًا القطع بخلوّ البلدة عن الأنيس. وقال غيره: إن الاستثناء متصل لأن الله سبحانه في كل مكان بالعلم فيصح الرفع عند الحجازيين ايضًا. وزيفه في الكشاف بأن كونه في السموات والأرض بالعلم مجاز، وكون الخلق فيهن حقيقة من حيث حصول ذواتهم في تلك الأحياز، ولا يصح أن يريد المتكلم بلفظ واحد حقيقة ومجازًا معًا. وأجيب بأنا نحمل كون الخلق فيهن على المعنى المجازي أيضًا لأنهم أيضًا عالمون بتلك الأماكن لا أقل من العلم الإجمالي. وضعفه في الكشاف بأن فيه إيهام تسوية بين الله وبين العبد في العلم وهو خروج عن الأدب. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «بئس خطيب القوم أنت» لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى. والحق أن وقوع اللفظ على الواجب وعلى الممكن بمعنى واحد لابد أن يكون بالتشكيك إذ هو في الواجب أدل وأولى لا محالة، فهذا الوهم مدفوع عند العاقل ولا يلزم منه سوء الأدب، ولهذا جاز إطلاق العالم والرحيم والكريم ونحوهما على الواجب وعلى الممكن معًا من غير محذور شرعي ولا عقلي، وليس هذا كالجمع بين الضميرين إذا كان يمكن للقائل أن يفرق بينهما فيزداد الكلام جزالة وفخامة. عن عائشة: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدًا لئلا يأمن الخلق مكره. قال المفسرون: سال المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة فنزلت. وأيان بمعنى متى. إلا أنه لا يسأل به إلا عن أمر ذي بال وهو فعال من أن يئين فلو سمي به لانصرف، وحين ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ولا يشعرون البعث الكائن ووقته بين أن عندهم عجزًا آخر أبلغ منه وهو أنهم ينكرون الأمر الكائن مع أن عندهم أسباب معرفته فقال: {بل ادّارك} أي تدارك. ومن قرأ بغير الألف فهو افتعل من الدرك أي تتابع واستحكم. ومعنى أدرك بقطع الهمزة انتهى وتكامل علمهم في الآخرة أي في شأنها ومعناها، ويمكن أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكمًا بهم كما يقول لأجل الناس: ما أعلمك.
وإذا لم يعرفوا نفس البعث يقينًا فلأن لا يعرفوا وقته أول. ويحتمل أن تكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولهم أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك، وصفهم أوّلًا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم أضرب عن ذلك قائلًا إنهم لا يعلمون القيامة فضلًا عن وقتها ثم إن عدم العلم قد يكون مع الغفلة الكلية فأضرب عن ذلك قائلًا إنهم ليسوا غافلين بالكلية ولكنهم في شك ومرية، ثم إن الشك قد يكون بسبب عدم الدليل فأضرب عن ذلك قائلًا إنهم عمون عن إدراك الدليل مع وضوحه، وقد جعل الآخرة مبدأ أعمالهم ومنشأه فلهذا عداه بمن دون عن والضمائر تعود إلى من في السموات والأرض. وذلك أن المشركين كانوا في جملتهم فنسب فعلهم إلى الجميع كما يقال: بنو فلان فعلوا. وإنما فعله ناس منهم قاله في الكشاف. قلت: قد تقدّم ذكر المشركين في قوله: {بل هم قوم يعدلون} وغيره فلا حاجة إلى هذا التكلف ولو لم يتقدّم جاز للقرينة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)}.
انتصاب {لوطًا} بفعل مضمر معطوف على أرسلنا، أي وأرسلنا لوطًا، و{إِذْ قَالَ} ظرف للفعل المقدر، ويجوز أن يقدر: اذكر؛ والمعنى: وأرسلنا لوطًا وقت قوله لقومه {أَتَأْتُونَ الفاحشة} أي الفعلة المتناهية في القبح والشناعة، وهم أهل سدوم، وجملة {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} في محل نصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة.
وذلك أعظم لذنوبكم، على أن {تبصرون} من بصر القلب، وهو العلم، أو بمعنى النظر، لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتوًّا وتمرّدًا، وقد تقدّم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى.
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة، وانتصاب {شهوة} على العلة أي للشهوة، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: إتيانًا شهوة، أو أنه بمعنى الحال، أي مشتهين لهم {مّن دُونِ النساء} أي متجاوزين النساء اللاتي هنّ محل لذلك {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} التحريم، أو العقوبة على هذه المعصية، واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة من أئنكم.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قرأ الجمهور بنصب {جواب} على أنه خبر كان، واسمها {إلاّ أن قالوا} أي إلاّ قولهم.
وقرأ ابن أبي إسحاق برفع جواب على أنه اسم كان، وخبرها ما بعده، ثم علّلوا ما أمروا به بعضهم بعضًا من الإخراج بقولهم: إنهم أناس يتطهرون أي يتنزهون عن أدبار الرجال! قالوا ذلك استهزاء منهم بهم.
{فأنجيناه وَأَهْلَهُ} من العذاب {إِلاَّ امرأته قدرناها مِنَ الغابرين} أي قدّرنا أنها من الباقين في العذاب، ومعنى {قدرنا} قضينا، قرأ الجمهور قدّرنا بالتشديد، وقرأ عاصم بالتخفيف.
والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} هذا التأكيد يدل على شدّة المطر، وأنه غير معهود {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} المخصوص بالذم محذوف أي ساء مطر المنذرين مطرهم، والمراد بالمنذرين: الذين أنذروا، فلم يقبلوا، وقد مضى بيان هذا كله في الأعراف والشعراء.
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ} قال الفراء: قال أهل المعاني: قيل للوط: قل: الحمد لله على هلاكهم، وخالفه جماعة فقالوا: إن هذا خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم، أي قيل: الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية، وسلام على عباده {الذين اصطفى} قال النحاس: وهذا أولى؛ لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكلّ ما فيه فهو مخاطب به إلاّ ما لم يصحّ معناه إلا لغيره.
قيل: والمراد بعباده الذين اصطفى: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأولى حمله على العموم، فيدخل في ذلك الأنبياء وأتباعهم {ءَآللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} أي آلله الذي ذكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أما يشركون به من الأصنام؟ وهذه الخيرية ليست بمعناها الأصلي، بل هي كقول الشاعر:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء

فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم، إذ لا خير فيهم أصلًا.
وقد حكى سيبويه أن العرب تقول: السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة، ولا خير في الشقاوة أصلًا.
وقيل: المعنى: أثواب الله خير، أم عقاب ما تشركون به؟ وقيل: قال لهم ذلك جريًا على اعتقادهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيرًا.
وقيل: المراد من هذا الاستفهام: الخبر.
قرأ الجمهور: {تشركون} بالفوقية على الخطاب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب: {يشركون} بالتحتية، وأم في {أَمَّا يُشْرِكُونَ} هي المتصلة، وأما في قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض} فهي المنقطعة.
وقال أبو حاتم: تقديره ءآلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض وقدر على خلقهنّ؟ وقيل: المعنى: أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير، أم عبادة من خلق السماوات والأرض؟ فتكون أم على هذا متصلة، وفيها معنى التوبيخ، والتهكم كما في الجملة الأولى.
وقرأ الأعمش: {أمن} بتخفيف الميم {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء} أي نوعًا من الماء، وهو المطر {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} جمع حديقة.
قال الفراء: الحديقة البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط، فهو البستان، وليس بحديقة.
وقال قتادة، وعكرمة: الحدائق: النخل {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي ذات حسن، ورونق.
والبهجة: هي الحسن الذي يبتهج به من رآه، ولم يقل: ذوات بهجة على الجمع؛ لأن المعنى: جماعة حدائق {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أي ما صح لكم أن تفعلوا ذلك، ومعنى هذا النفي: الحظر، والمنع من فعل هذا أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم ذلك، ولا يدخل تحت مقدرتهم لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود.
ثم قال سبحانه موبخًا لهم ومقرّعًا: {أإله مَعَ الله} أي هل معبود مع الله الذي تقدّم ذكر بعض أفعاله حتى يقرن به ويجعل شريكًا له في العبادة، وقرئ: {ءإلها مع الله} بالنصب على تقدير: أتدعون إلها.
ثم أضرب عن تقريعهم وتوبيخهم بما تقدّم، وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي يعدلون بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل.
ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها، فقال: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَارًا} القرار: المستقرّ أي دحاها، وسوّاها بحيث يمكن الإستقرار عليها.
وقيل: هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض}، ولا ملجىء لذلك، بل هي وما بعدها إضراب وانتقال من التوبيخ والتقريع بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشيء آخر {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا} الخلال: الوسط.
وقد تقدّم تحقيقه في قوله: {وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَرًا} [الكهف: 33] {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أي جبالًا ثوابت تمسكها، وتمنعها من الحركة {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزًا} الحاجز: المانع، أي جعل بين البحرين من قدرته حاجزًا.